يفرض «حزب الله» نفسه لاعباً وحيداً في لبنان، يُمسك بيده القرار الأهم في الدولة وهو قرار السلم والحرب، حتى أن رئيس الحكومة سعد الحريري «البراغماتي» -والتوصيف له – يُسلّم في حديث له مع قناة «سي أن بي سي» بأن ما يسيطر عليه «حزب الله» ربما هو قرار حرب قد تحصل لأسباب إقليمية لا كلمة لنا فيها»، مردفاً في تحليله أنه «يعرف حدوده وحدود هذه المنطقة، وأن المجتمع الدولي يدرك أن «الحزب» ليس مشكلة لبنانية إنما مشكلة إقليمية(…) ولو كانوا جادّين لكانوا فعلوا أموراً قبل 10 أو 15 أو 20 أو 30 سنة، وربما بدأوا يفعلون شيئاً الآن(…) وليس خطئي بأن أصبح «حزب الله» بهذه القوة، لكن القول بأنه يحكم لبنان هو خطأ».
هل يمكن أن يكون هناك واقع مثالي لـ«حزب الله» أفضل من الواقع الداخلي الراهن الذي يحظى به؟ واقع يتماهى فيه مع الدولة بمختلف أركانها وأطيافها، أو تتماهى الدولة معه بكل مؤسساتها؟ أليس هذا ما نحج «حزب الله» في تحقيقه منذ انتفاضة الاستقلال عام 2005 إلى اليوم الذي أتى فيه بسعد الحريري إلى التسوية الرئاسية عام 2016 بعدما كان أمينه العام قد أقسم إثر الإطاحة بالحريري من سدة الرئاسة الثالثة عام 2011 أنه لن يقبل به رئيساً للحكومة ما دام حياً؟
أمَّنت التسوية الرئاسية تحالفاً وثيقاً بين الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل. وظن رئيس حزب «القوات اللبنانية» أنه بدعمه ترشيح عون ومساهمته في تعبيد طريق بعبدا أمامه أضحى عنصراً ثابتاً في التركيبة الجديدة في إدارة الحكم. وحده «حزب الله» كان ينسج خيوط مشروعه بدقة: يطمئن لتحالفه مع رئيس الجمهورية في القرارات الاستراتيجية. يقوم بـ«ربط النزاع» مع «تيار المستقبل» حول الملفات الخلافية من مستقبل سلاحه وانخراطه في الحرب السورية. يقود الدولة من المقعد الخلفي، يتدخل عندما تقتضي الحاجة، يترك القوى السياسية تستنفد آراءها ومواقفها حول قانون الانتخاب، ليفرض في نهاية المطاف القانون الذي يريده والذي وفّر له، من بوابة الانتخابات، غالبية سياسية تغنيه بمناسبة أو من دون مناسبة باستخدام فائض قوة سلاحه.
أي حال يمكن أن تكون أفضل لـ«حزب الله» في لحظة المواجهة الكبرى الدائرة في المنطقة؟ كان دائماً يسعى إلى أن يكون ظهره محمياً، فيما هو يخوض المعارك خارج الحدود، من سوريا إلى العراق واليمن وغزة. بصمات شبكته الخارجية التي تُشكِّل جزءاً من الحرس الثوري الإيراني تمتد إلى الأميركيتين وإلى أفريقيا في إدارة عمليات التمويل، من تهريب المخدرات وتبييض الأموال الى التجارة غير المشروعة والتجارة عبر وسطاء، فضلاً عن دوره ودور راعيته في اختراق الدول الخليجية. كل هذا يحصل في وقت يبدو معه لبنان الرسمي والقوى السياسية وحتى الشعبية فيه غير معنيين، وأن لا مسؤولية تقع عليهم، انطلاقا من التسليم المطلق بأن ما في اليد حيلة!. وإذا تجرَّأ أحد على أن يبادر إلى السؤال عن دور مسؤولية الدولة، تُكال عليه اتهامات التخوين.
أليس غريباً أن يخرج نصرالله عقب الهجوم الصاروخي الأحد الماضي من منطقة عمليات «اليونيفيل» وعبر الخط الأزرق ليعلن عن سقوط الخطوط الحمر، بما يعني سقوط القرار الدولي 1701 وكأن شيئاً لم يحصل؟ أليس لافتاً أن سياسيين لا يزيدون عن عدد أصابع اليد الواحدة أثاروا هذه المسألة بكثير من الحذر، من دون أن يكون لكلامهم هذا الصدى الكبير؟ يقول الرئيس فؤاد السنيورة إن «حزب الله» يورِّط لبنان، ويسأل رئيس حزب «الكتائب» النائب سامي الجميل من موقعه المعارض، ويغرد رئيس حزب «القوات» سمير جعجع عما إذا كان رئيسا الجمهورية والحكومة أخذا علماً قبل أو بعد كلام نصر الله بإلغاء قرار مجلس الأمن 1701، وعما إذا كانا موافقين؟ وحين يسأل وزيران من «القوات» في جلسة مجلس الوزراء أمس عن موقف الأمين العام لـ«الحزب»، يأتيهما الجواب من الحريري الملتزم بـ1701 ومن وزير «الحزب» محمد فنيش بأن «لا أحد يريد استباحة الحدود وأن الرد يكون إذا اعتدت إسرائيل». ستنتهي الأمور عند هذه الحدود وسيكون غداً يوم آخر بانتظار ما سيحمله من تطورات جديدة تفرض نفسها على المشهد اللبناني.
الاعتقاد السائد لدى متابعين لصورة المنطقة الأشمل أن خطر الانزلاق إلى حرب مع إسرائيل من الحدود اللبنانية لم يعد بهذه الحدة، على الرغم من إطاحة نصرالله بالخطوط الحمر التي هي في مفهوم هؤلاء ما يسميه «حزب الله» بقواعد الاشتباك، والتي هي في واقع الأمر ليست قواعد اشتباك بين إسرائيل والدولة اللبنانية بمنطوق القرار الدولي، بل هي قواعد اشتباك بين إسرائيل و«حزب الله» صيغت بين الجانبين بالمباشر أو بالواسطة، ولا تقتصر فقط على لبنان بل تشمل وجوده في سوريا.
الطرفان فقط يدركان ما هو المسموح تجاوزه في بنود قواعد الاشتباك وما هو الممنوع، والمهم ألاّ يُقدِم أحد منهما على كسر تلك القواعد. لا يجري هنا الحديث عن مدى تقيّد «حزب الله» بتطبيق القرار 1701 بعدم تواجده المسلح جنوب الليطاني، من حيث نفذت عمليته الأخيرة هذه، وحيث كان سبق أن جرى البحث مراراً مع الجيش اللبناني عن وجود مواقع لـ«الحزب» في منطقة عمليات الطوارئ، وهو كلام سمعه مجدداً الحريري في زيارته الأخيرة إلى واشنطن. فحين تحدث عن الرغبة في الانتقال من حال وقف الأعمال العدائية إلى تثبيت وقف إطلاق النار، جرى إبلاغه عن خريطة تحدد ما يزيد عن 50 موقعاً يتواجد فيها «الحزب»، والحاجة إلى أن يقوم الشريك اللبناني المتمثل بالجيش اللبناني بدوره في هذا الإطار، إذ إن مسؤولية ضمان خلو المنطقة من السلاح جنوب الليطاني تقع على عاتق القوى النظامية اللبنانية إلى اليونيفيل.
المهم بالنسبة لإسرائيل و«الحزب» هو العودة إلى رسم قواعد الاشتباك، بمعنى قواعد اللعبة المسموحة بها. بدا واضحاً أن موضوع الصواريخ الدقيقة وإدخال سلاح الطائرات المسيَّرة إلى المعادلة يُعتبر تجاوزاً للخطوط الحمر الإسرائيلية. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يتطرَّق فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الصواريخ الدقيقة والتي أكد نصر الله أنها أصبحت في حوزة «الحزب»، لكن الكلام عن وجود مصانع لجمع الصواريخ بات يتقدَّم كل المراجعات الغربية للبنان.
غير أن الإخراج الأخير لواقعة رد «حزب الله» على العملية المزدوجة لإسرائيل في عقربا السورية وفي الضاحية الجنوبية من بيروت، والرد على الرد وما أحيط بهما من «النصوص المسرحية»، يشي بأن التصعيد على الضفتين ورسائل التهديد المتبادلة هي أدوات التفاوض بالنار قبل الرسو مجدداً على قواعد جديدة، وبأن الذهاب إلى إثارة هذا الموضوع يندرج في جانب منه إلى حاجة نتنياهو الانتخابية لكنه يُشكّل عنواناً من العناوين الرئيسة التي ستكون مطروحة بقوة على طاولة المفاوضات، عندما تحين الساعة. وإلى ذلك الوقت، فإن «حزب الله» سيبقى، «نموذجاً مشعاً» للحرس الثوري الإيراني، والنموذج المثال لأذرع إيران ليس فقط في قدرته العسكرية بل أيضاً في قدرته على حكم لبنان وترسيخ قوته، بإقرار من الجميع وربما حتى بموافقتهم ورضاهم!