لم تبرأ ذاكرة اللبنانيين بعد من جراح حروبهم الأهلية، على الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على اخماد صوتها. ذلك ان زمن الاستقرار الهش منذ مطلع التسعينات وحتى اليوم تخلله العديد من «الحروب» الصغيرة التي كانت تندلع بين المكونات اللبنانية كلما وصل الاحتقان السياسي الى ذروته. وفي بلد الطوائف المتعددة، وبعيداً عن نغمة التنوع الثقافي الخلاق، من الصعب أن ينجو أي حدث عام، سياسيا كان أم اجتماعيا أم فنيا، من لوثة طائفية ما، سيما وأن تاريخ هذه البلاد، مثقل بإرث كبير من النزاعات الطائفية. ولأن «الحرب مبدؤها كلام وإن لم يُطفئها عُقلاء قومٍ يكون وقودها جثثاً وهام «لا يبدو مستغرباً ان يثير أي نزاع القلق والريبة من انفلات الأمور الى ما هو أبعد من ردة الفعل السياسية والصراخ الاعلامي.
في الأيام الاخيرة توالت حوادث اختلط فيها السياسي بالاجتماعي بالفني، أثارت سجالات حامية وانقسمت آراء اللبنانيين حيالها بشكل بات من الصعب مقاربتها بآليات موضوعية. من هذه الحوادث الغاء حفل فني لـ«مشروع ليلى» ضمن فعاليات «مهرجانات بيبلوس» تحت ضغط السلطتين السياسية والدينية المسيحية، وكذلك موضوع تنظيم العمالة الأجنبية وقضية توظيف الشباب الناجحين في مجلس الخدمة المدنية. قد يبدو ان هذه المسائل غير مترابطة، ولو حدثت في أي بلد كانت ستمر بأقل قدر من الضجيج ومن دون ان يترتب عليها اي تداعيات. لكن أن تجري في لبنان حيث ينبت كل شيء بجذر طائفي فللأمور معنى وبعد آخر.
قبل نحو شهر لجأت وزراة العمل إلى تطبيق خطة لمكافحة العمالة الأجنبيّة غير الشرعيّة بهدف الحد من ارتفاع البطالة وحماية اليد العاملة اللبنانية. مثل هذا الاجراء كان سيبدو أمراً طبيعياً بل واجباً في أي بلد آخر. لكن أن يكون وزير العمل منتمياً إلى حزب «القوات اللبنانية» حمَل الفلسطينيين ومعهم قسم من اللبنانيين على التصويب على الوزير وفريقه السياسي متهمين اياه باستهداف الفلسطينيين لحرمانهم من حق العودة والتواطؤ مع جهات اجنبية لتمرير صفقة القرن! ومنذ اقرار الخطة يواصل فلسطينيو المخيمات الاعتصامات والمسيرات الاحتجاجيةاعتراضا. وفي مقابل الاعتراض الفلسطيني المدعوم بقسم من اللبنانيين خرجت أصوات مدافعة عن خطة الوزير ومشجعة على المضي بها لاسيما من قيادات التيار الوطني الحر ومن رئيسه جبران باسيل الذي «أثنى» على عمل وزير «قواتي» في بادرة غير مسبوقة في تاريخ العلاقة بين الحزبين اللدودين. لكن الاعتراض الفلسطيني الميداني أفلت الغرائز المكبوتة من عقالها في الجهة المقابلة، واطلق حملات كلامية عنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، (حيث انتشر هاشتاغ «عودوا الى بلدكم»)، أعادت الى أذهان اللبنانيين أجواء الحرب الأهلية عشية 1975 وذكرتهم بماض دموي بدأ مع الفلسطينيين لينتقل لاحقاً الى الجماعات اللبنانية فيما بينها. تقليد أم فائض قوة؟ وفي زمن استعادة «حقوق المسيحيين» الذي يتبناه تيار الرئيس ميشال عون قاعدة له في عمله السياسي، (استعادة ممن، ومن سلب الحقوق؟) تعالت صيحات ناشطين مسيحيين لإلغاء حفل فني كان مقرراً أن تحييه فرقة «مشروع ليلى»، في مدينة جبيل التاريخية مهددين باللجوء إلى العنف في حال لم تستجب اللجنة المنظمة لمطلبهم.
وذريعة المحتجين المدعومين من أحزاب مسيحية ومؤسسات كنسية بأن الفرقة «تهين مقدسات مسيحية وتشجع المثلية»، وهو ما استدعى تدخل النيابة العامة التي لم تجد في اعمال الفرقة أي انتهاك للقوانين، ومع ذلك فضلت اللجنة المنظمة الغاء الحفل خوفا من ردات فعل غير محسوبة النتائج في ظل هيجان طائفي لم يشهد له لبنان مثيلا. واذا كانت ردة فعل «المسيحيين» مفاجئة للبعض، لاسيما ان الفرقة شاركت سابقاً في حفلات في مهرجانات بعلبك، كما أن أغانيها قديمة وليست بجديدة، فإن بعض المراقبين يرون أن المسار السياسي للتيار الوطني الحر والقائم على مبدأ استعادة حقوق المسيحيين يدغدع شعور مناصريه ومنافسيه على الساحة المسيحية، خصوصاً بعد حرب يرون انها انتهت على حسابهم وابعدتهم لسنوات عن السلطة، فيما يرون طائفة اخرى تستقوي بسلاحها وتفرض شروطها. ومن علامات انحدار البلاد الى الحضيض الطائفي، رفض قوى لبنانية ممثلة في السلطة توظيف شباب لبنانيين في ادارات الدولة ممن نجحوا في اختبار مجلس الخدمة المدنية بحجة ان اغلبهم من المسلمين الامر الذي لا يراعي التوازن الطائفي، في حين ان الدستور واضح وهو ينص على المناصفة فقط في وظائف الفئة الاولى. إحصاء غير بريء وسط هذا السعار الطائفي نشر مركز الدولية للمعلومات «بالمصادفة» دراسة عن تعداد سكان لبنان، علما أن أول وآخر إحصاءات للسكان كان في عام 1932 ومنذ ذلك الحين لم يجر أي إحصاء للسكان، لأسباب طائفية على الأرجح ليبقى عدد اللبنانيين في اطار «التخمين» والتقدير. وكشفت الدراسة ان المسيحيين الذي كانوا يشكّلون في عام 1932 نحو 60 بالمئة من سكان لبنان مقابل 40 بالمئة من المسلمين، باتوا 30 بالمئة فقط في عام 2018، بينما أصبح المسلمون 70 بالمئة.
لكن نشر هذه الدراسة في هذا الوقت بالذات لم يسلم من سهام الانتقاد اذ اعتبرته قيادات مسيحية «أمر حق يراد به باطل» واضعة اياه في خانة «التهويل بالعدد» الذي يرفع في وجهها كلما طالبت بـ«حقوقها». يجري كل ذلك في عصر مواقع «التواصل الاجتماعي» التي أتاحت حق التعبير لكل فرد أيا كان مستوى ثقافته ومعرفته، ولأن هذه الوسائط لا تخضع للموجبات القانونية التي تخضع لها وسائل الاعلام التقليدية فلا عجب أن تصبح القضايا العامة منطلقا لحروب كلامية من دون ضوابط وتذهب الى الحدود القصوى
المصدر : القبس