كتب النائب السابق مصطفى علوش في نداء الوطن
“وسرت وحدي شريداً محطم الخطوات تهزني أنفاسي، تخيفني لفتاتي كهارب ليس يدري من أين أو أين يمضي شك، ضباب، حطام، بعضي يمزق بعضي سألت عقلي فأصغى وقال لا لن تراها وقال قلبي أراها ولن أحب سواها ما أنت يا قلب قل لي أأنت عنة حبي أأنت نقمة ربي… إلى متى أنت قلبي؟”
(كامل الشناوي)
“حتى لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم”! يروى أنه في يوم من الأيام عُقد وعد صادق بين الذئب وراعي الغنم. فراعي الغنم تعبت كلابه من نوبات السهر المستمرة، وأرهق هو من حَملِ بندقية أدمت كتفه. لكن الراعي بحاجة لرواية لا نهاية لها يقنع بها القطيع بضرورة أن يحترموه ويتبعوا تعليماته لكون الذئب الخبيث يستهدفهم ويريد فناءهم! والذئب من جهته يحتاج لرواية تسوغ له أسباب استهدافه للقطيع، فهو إن لم يأكل سيضعف، وإن ضعف فسيأتي الراعي وكلابه فيقضون على عشيرة الذئاب بأكملها. من أجل ذلك، وبما أن الراعي والذئب قد فهما قواعد اللعبة، توصلا إلى تفاهم غير مكتوب، وربما عبر وسطاء من أهل الخير، بأن يأكل الذئب ما يكفيه من القطيع بحيث تستمر أسطورته بأنه يحمي عشيرته من شر المتربصين بها بأنه المعيل الوحيد لها.
الراعي كان يطلق مع كل غزوة للذئب بضع عيارات في الهواء، فتبدأ الكلاب بالنباح ويحلّ الهرج والمرج، فتسقط عيارات طائشة على مرج فتحرقه، والذئب يعود هارباً تحت جنح الليل كالجبناء، ومعه حملٌ يحمله بين أنيابه. وفي اليوم التالي يحتفل الطرفان بالإنتصار المبين، وتزغرد النعجة الثكلى لارتقاء فلذة كبدها إلى مرتبة أعلى، وتعلن عن تقديم المزيد من الحملان في سبيل أن يرضى الراعي ويبقى محتفظاً ببندقيته، حتى وإن كان الرصاص خلبياً. وبلحظات سينشر الكبش الهائج بفحولته، ذو القرنين المعكوفين، بذرته الطيبة بين النعاج لينتج المزيد من الحملان للتعويض.
ولكن، وفي اليوم الثاني، يذهب القطيع ليرعى فيكتشف أن حقل البرسيم الرحب قد أحرق بالكامل، ليقودهم الراعي عبر مسار شاق ووعر إلى حقل ثانٍ. هذه رواية من نسج الخيال ولا تمت إلى الواقع بصلة.
لكن القصة الواقعية هي أن مواطنين لبنانيين تجمعوا منذ أيام، في تظاهرة غير مسبوقة، أمام السفارة الكندية وهم يطالبون بحقهم بالهرب من ساعة صفر يقررها ذئب أو راع، بعد أن تعذر عليهم التقرير من هو الذئب حقاً ومن هو الراعي، ولم يعد يفرق الواحد منهم بين حقيقة شعوره نحو الذئب ونحو الراعي! فصار يعتبر أن الذئب والراعي سيان! حيرة ذاك المواطن هي أنه منذ مدة ليست ببعيدة، كان يقدس الراعي ويضع صورته على مدخل بيته وفي الرواق وعلى حائط غرفة الإستقبال والطعام والجلوس، وإلى جانب صور العائلة في غرفة النوم. كان يسند ظهره إلى يقين أن الراعي هو الخير المطلق الذي يحميه من الذئب المطلق، ولم يخطر في باله، وقد سقط اليقين، بأنه حائر الآن ما بين ساعة الصفر التي لا قرار ولا دخل له بها، وهي كساعة الغفلة، لا يعلم من أين ومتى وكيف ستأتي، وبين ساعة السفر التي يقررها هو، هذا إن منّت عليه سفارة ما، لتعده بحقل برسيم لا تحرقه الرصاصات الطائشة، وراع يرعى الرعية، وذئاب لا تأكل اللحم الحي لأنها منضبطة تحت سقف القانون.
مواطن آخر طاعن في السن ظهر هو الآخر على شاشات التواصل الإجتماعي، بدا واضحاً بأنه ما زال يفرق ما بين الراعي والذئب، ويعترف بجميل الراعي عليه، لكنه تمنى على راعيه أن يؤجل ساعة الصفر إلى ما بعد يوم قبض المعاش حتى يتمكن من تدبير أحواله متى حلت تلك الساعة المؤكدة بوعد الراعي الصادق! هذا المواطن تمت تلبية تمنياته فكانت ساعة الصفر في أول الشهر، لكن أول الشهر كان يوم عطلة نهار الأحد، ولا أظن أن الرجل كان قد قبض معاش تقاعده! لكن من قبض قبل يومين، وذهب ليقضي نهار الأحد مع أولاده على شاطئ البحر أو في متنزه جنوبي شعبي، وجد نفسه يلملم حصيره وبعضاً من ملابس أولاده الممزوجة بالرمل أو الملوثة بالوحل، مستدركا ساعة الصفر بالرحيل نحو الأمان.
هذه ببساطة حال القطيع الحائر بين ساعة الصفر وساعة السفر!