عندما أوكل إلى مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم مهمة إيجاد مخرج لحادثة قبرشمون- البساتين استوحى العمل على خط تجنيب البلاد، تداعيات هذا الحادث على كل المستويات من خريطة الطريق التي رسمها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وهي العمل على ثلاث مستويات متلازمة مع بعضها البعض وقوامها الأمن والقضاء والسياسية، وتجنب الوقوع في أي خطأ نظراً لحساسية الوضع في الجبل، لكن عمله هذا اصطدم بحائط تسييس هذا الحادث، أو استغلاله لتصفية حسابات تتداخل فيها عوامل داخلية، مع عوامل إقليمية، ما أدى إلى تعثر مهمة مدير عام الأمن العام المشهود له من الجميع بأنه صاحب المهمات الصعبة، مع ما تبع ذلك من مواقف تصعيدية من رئيس الحزب الديمقراطي، كان الهدف الظاهر منها، محاصرة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط من خلال تحميله مسؤولية تعريض السلم الأهلي للاهتزاز.
وحيال هذا الموقف التصعيدي الذي اتخذه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وما بدا بعد ذلك من حزب الله والتيار الوطني الحر من دعم لهذا الموقف التصعيدي لم يجد مدير عام الأمن العام بُداً من ان يوقف مساعيه مع الأطراف المعنية مباشرة أو غير مباشرة بالحادث المذكور لتيقنه بأن أي مخرج غير الذي سار عليه منذ تكليفه بهذه المهمة لن يجد طريقه إلى النور، بل سيزيد من التعقيدات الموضوعة امام طريقه، لا سيما وأن النائب أرسلان لم يغير ولم يبدل في شرط إحالة الحادث إلى المجلس العدلي قبل ان يقول القضاء كلمته بعد التحقيقات التي يجريها مع الأطراف المعنية بهذا الحادث وإن كان مدير الأمن العام استطاع بحكمته ودرايته ان ينجح في الجانب الأمني من مهمته، ويُعيد الوضع إلى طبيعته في الجبل، بعد ان وضع كل المسؤولين في الصورة الحقيقية للوضع، وبأن لا حلَّ يُمكن ان يتحقق الا بالعودة إلى تلازم الأمن والقضاء والسياسة في خط متوازن، إذ لا أمن من دون قضاء ولا قضاء من دون توافق سياسي على دوره المفصلي في حسم الأمور وبثبات الحقائق.
وقد أثبتت الأوضاع التي آلت إليها حادثة الجبل، ان لا بديل عن الحل السياسي لحادثة الجبل، مهما ارتفعت وتيرة التصعيد، من هنا وهناك، وبالتالي لا مفر من العودة إلى خريطة الطريق التي سار على هديها مدير عام الأمن العام وهي تلازم الأمن والقضاء والسياسة من أجل الوصول إلى الحل الذي يرضي الجميع، ويقي البلاد المخاطر التي قد تنجم عن المواقف المتشنجة المعتمدة من الفرقاء، سواء فريق النائب أرسلان أو فريق النائب السابق وليد جنبلاط.
وبدلاً من ان تأخذ الاتصالات هذا المنحى الإيجابي الذي اعتمده مدير عام الأمن العام للخروج من الأزمة، وتجنيب البلاد ما يترتب عليها من تداعيات خطيرة على السلم الأهلي، سارع «التيار الوطني الحر» هذه المرة بلسان مصادر القصر الجمهوري إلى تبديل موقفه، بإتهام الحزب التقدمي الاشتراكي بوضع كمين لاستهداف رئيس التيار وتدخل في القضاء بكل ما يملك من سلطة عليه لحصر مسؤولية الحادث بالحزب التقدمي ورئيسه تحديداً ما حدا بجنبلاط إلى قلب الطاولة على الجميع وتحميل رئيس الجمهورية مسؤولية التصعيد الحاصل، وكان من البديهي ان يرد الحزب على التحدي بمثله وينحو في اتجاه التصعيد بدلاً من المهادنة، والتعامل بإيجابية مع مهمة اللواء إبراهيم إلى ان وصلت الأزمة إلى الحائط المسدود بعدما أصبحت بين الحزب التقدمي وبين رئاسة الجمهورية، وباتت البلاد امام خيارات صعبة، وتحتاج إلى قوة خارقة لإحداث ثغرة في الجدار المسدود من شأنها ان تعيد الاعتبار للمبادرة التي أطلقها المدير العام للأمن العام والتي بنيت عليها كل المبادرات الاخرى ولا سيما منها مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه برّي التي ما لبث ان تراجع عنها أو جمدها بعدما وجد ان التيار الوطني، ومن يدعمه سراً أو علناً لا يتجاوب معها لحسابات خاصة لها ابعاد كثيرة داخلية وخارجية، مما يعني ان المعركة باتت مفتوحة على كل الاحتمالات، ولا سيما على الوضع الحكومي المجمد منذ وقوع حادثة الجبل، بقرار من التيار الوطني الحر إلى ان يرضخ رئيسها إلى شروطه ويطرح مسألة إحالة الحادثة إلى المجلس العدلي وبات على الذين ما زالوا يتفاءلون بإمكانية عودة الحكومة إلى عقد جلسات لمجلس الوزراء في المستقبل القريب ان يراجعوا حساباتهم ويقروا بأن لا جلسات لهذا المجلس إلا إذا عدلت رئاسة الجمهورية في موقفها، واخذت بالمبادرة التي أطلقها مدير عام الأمن العام بعد تكليفه بمهمة إنهاء الاشكال الحاصل في الجبل على خلفية حادثة قبرشمون- البساتين وهي الاحتكام إلى القضاء بالتزامن مع سعي إيجاد مخارج سياسية لهذه الأزمة.