كتب القنصل محمد ابراهيم الجوزو عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي و البيئي.
لم يتأخر لبنان في اقرار قانون “انشاء الصندوق السيادي”، ولكنّا اعتبرناه تأخّر فيما لو كانت الأمور في لبنان تسير بشكل مؤسساتي طبيعي، وبخاصة أن مسألة “الصندوق السيادي” يجب أن تأتي في سياق خطة اقتصادية متكاملة ورؤية يتوحد حولها اللبنانيون.
أما والحال كما هو حالنا اليوم فإن مخاوف عديدة تنتاب كل مراقب وخبير وكل مواطن ضنين على موارد لبنان وأجياله القادمة بعد أن ذهبت أموال المودعين في هذه الحقبة المشؤومة من تاريخ لبنان هباء منثورا.
ولكن مع توقيع لبنان على الاحداثيات المتعلقة بحدوده البحرية الجنوبية على أساس الخط ٢٣ وإبلاغ الأمم المتحدة أصولا بذلك، وانطلاق الإجراءات اللوجستية للتنقيب حسب ما اعلن وفد شركة توتال الذي زار لبنان مؤخراً والنقاشات التي تدور حول مجموعة الشركات المؤهلة للتنقيب والاستخراج والتي ستتقاسم مع الدولة اللبنانية عائدات الغاز بصفتها من أصحاب الحقوق وفقاً لأحكام القانون رقم ١٣٢ الصادر في ٢٤/٨/٢٠١٠ (الموارد البترولية في المياه البحرية)، بات ضروريا إقرار مجلس النواب قانون خاص يحدد نظام الصندوق ونظام إدارته الخاصة ووجهة استعمال العائدات اصطلح على تسميته “قانون انشاء الصندوق السيادي”، والذي نصت عليه المادة ٣ من القانون ١٣٢ (مبادئ إدارة البترول) وقد جاء فيها:
١- يهدف هذا القانون إلى تمكين الدولة من إدارة الموارد البترولية في المياه البحرية.
٢- تودع العائدات المحصلة من قبل الدولة الناتجة من الأنشطة البترولية أو الحقوق البترولية في صندوق سيادي.
٣- يحدد نظام الصندوق ونظام إدارته الخاصة ووجهة استعمال العائدات بموجب قانون خاص بالاستناد إلى مبادئ وأسس واضحة وشفافة للتوظيف والاستعمال، تحتفظ من خلالها الدولة برأس المال وبجزء من عائداته كصندوق استثماري للأجيال المقبلة، وتصرف الجزء الآخر وفقاً لمعايير تضمن حقوق الدولة من جهة، بما يجنّب الاقتصاد أي انعكاسات سلبية محتملة على المدى القصير والطويل.
اما المادة ٤ من القانون ١٣٢ فقد نصت على أن ملكية الموارد البترولية والحق في إدارتها تعود حصراً للدولة، والمواد ٦ (مشاركة الدولة) و٧ (التحضيرات لإطلاق دورات الترخيص) و٨ (مجلس الوزراء) وغيرها، تحصر المسؤولية بمقام مجلس الوزراء الذي “يصدر المراسيم كافة” و”يضع السياسة البترولية العامة للدولة ولا سيما منها المتعلقة بإدارة مواردها البترولية ويبت الآراء المختلفة بين الأطراف المعنية”.
وقد حدّد القانون ١٣٢ المهلة الزمنية لإنشاء شركة بترول وطنية إذ جاء في المادة ٦ منه أن الدولة “تحتفظ بحق القيام في أو المشاركة في الانشطة البترولية وفقا لأحكام هذا القانون، وتحدد حصتها من الرخصة البترولية و/أو في اتفاقية الاستكشاف والإنتاج بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير بالاستناد الى رأي الهيئة”.
وتتابع المادة نفسها أنه “يمكن عند الاقتضاء وبعد التحقق من وجود فرص تجارية واعدة، إنشاء شركة بترول وطنية، بمرسوم في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير بالإستناد الى رأي الهيئة”.
لقد عرضنا بشكل موجز بعض نصوص القانون ١٣٢ لنوضح أن النصوص الموضوعة ممتازة وهي كفيلة في حال تطبيقها بأن تقدّم نموذجا يحتذى به عن ادارة “الملف البترولي” بكل تفاصيله، لكن يبدو واضحاً أن إقرار القانون الخاص ب “انشاء الصندوق السيادي” سيكون موضع تجاذب سياسي كبير حسب ما هو واضح في مندرجات اقتراحي القانون المقدمين، الأول من كتلة “التنمية والتحرير” بتوقيع النائبين أنور الخليل وياسين جابر في العام ٢٠١٧ والثاني من كتلة “لبنان القوي” المقدم في العام ٢٠١٩ بتوقيع النائب سيزار ابي خليل.
فالإقتراح الأول ينسجم مع مضمون القانون ١٣٢ ومع النصوص الدستورية لا سيما المادتين ٦٤ التي تنص على أن رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها ويعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء، و ٦٥ التي تنص على أن السلطة الإجرائية تناط بمجلس الوزراء وأن من مسؤولياته وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها”، اذ ان المادة ٤ من الاقتراح نصّت على ان: تنشأ بموجب هذا القانون مؤسسة عامة ذات طابع خاص تدعى “الصندوق السيادي اللبناني” تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين المالي والإداري.
يرتبط الصندوق مباشرة بوزير المالية الذي يمارس سلطة وصاية عليه ويخضع هذا الصندوق للنصوص الواردة في هذا القانون ومراسيمه التنظيمية الصادرة تطبيقا لأحكامه.
أما الاقتراح الثاني والمقدم من كتلة “لبنان القوي” فينطوي على محاولة سحب هذه الصلاحيات من مقام مجلس الوزراء ووضعها لدى مديرية في رئاسة الجمهورية، وهذه محاولة واضحة للإلتفاف على الدستور وعلى صلاحيات مجلس الوزراء المنصوص عنها دستوريا وفي النصوص المرعية ذات الصلة، اشبه بانقلاب جزئي جديد على وثيقة الوفاق الوطني “الطائف”.
وعليه، يظهر جليا ان بين الاقتراحين اختلاف كليّ بين الافرقاء في النظرة الى الهيكلية الإدارية للصندوق، ففي اقتراح ابي خليل يوجب القانون انشاء “مجلس الصندوق السيادي” فيما يوجب اقتراح الخليل / جابر انشاء “مجلس ادارة” وتختلف آلية التعيين بين المجلسين، كما يتضمن اقتراح ابي خليل تعيين مفوضية الحكومة لدى الصندوق السيادي في رئاسة الجمهورية. أما في اقتراح قانون كتلة التنمية والتحرير، تنشأ مديرية الأصول البترولية في وزارة المالية.
وفي خضمّ هذه التناقضات أسئلة عديدة تطرح اليوم انطلاقا من التجربة اللبنانية المريرة، ومنها هل ستستقل إدارة الصندوق عن النهج المتبع في إدارات الدولة سابقاً لجهة المحاصصة والاستزلام؟ لا سيما المؤسسات الخاضعة لسلطة وصاية الدولة والتي تكون ذات طابع تجاري واستثماري، ويطلق عليها اسم المؤسسات العامة؟
علينا كلبنان اليوم ان نستقي دروسا من الدول حول تجاربها في التعاطي مع “الصندوق السيادي” والنظام الضريبي الخاص بقطاع البترول، اذ بغض النظر عن شكل الادارة الاهمّ ان نجيد المحافظة على هذه الثروة ونحسن استغلالها خاصة وانها باتت خشبة الخلاص الاخيرة للبنان والتي نعوّل على ان تعيده الى سابق عهده مزدهرا رائدا في المنطقة من خلال الاستثمارات التي ستنفذ من خلال هذه الاموال عبر “الصندوق السيادي”.
ومن النماذج التي يحتذى بها النرويج وألاسكا حيث تنعم كل منهما بالموارد البترولية التي تدر عليهما مليارات الدولارات سنوياً وهذا ما عزز ودعم الاقتصاد في كل منهما وساهم في تحقيق نقلة نوعية بما يتعلق بمسار التنمية والنمو لديهما.
الا ان طريقة الاستفادة المالية من الادخار الى توزيع الإيرادات المتأتية عن هذا القطاع تختلف بين الدولتين، وهذا ما سنعرضه بشكل مختصر.
فألاسكا، ثلث عائداتها من هذا القطاع تأتي من حصتها من الاتاوات المفروضة على عمليات الإنتاج، التي تديرها شركات خاصة عاملة على ارضها وفي مياهها، ولا تدخر الدولة في صندوقها السيادي الدائم، والبالغ رصيده ٤٠ مليار دولار، الا جزء محدد من العائدات النفطية، وهي لا تتصرف بأرباح استثمارات الصندوق الا لجهة توزيع انصبة الأرباح على مواطنيها، كما انها تفرض ضريبة عقارية على منشآت التنقيب وإنتاج ونقل النفط.
اما في النرويج، فضريبة الدخل المفروضة على أرباح النفط والغاز تصل الى نسبة ٧٨% وهي تضع ١٠٠% من عائدات النفط والغاز في صندوقها السيادي الذي سجل رقما قياسيا في العام ٢٠١١ وصل الى ٥٤٠ مليار دولار. وتسحب سنويا ٤٠% من هذا الصندوق للخدمات العامة وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية.
اما النموذج الخليجي لناحية “الصناديق السيادية” فهو الأهمّ والاقرب الينا، اذ لا يخفى على احد ان هذه الصناديق شكّلت ولا تزال رافعة التحول الاقتصادي في دول الخليج العربي التي تتبنى صناديقها عبر حكوماتها خطط استراتيجية وبرامج طويلة المدى لانعاش اقتصاداتها وتعزيز قدراتها التنافسية إقليميا” وعالميا” على تحويل جذري في هوية اقتصاداتها، من اقتصادات ريعية قائمة على العائدات النفطية، الى اقتصادات متنوعة، قادرة على امتصاص الضغوطات والمتغيرات المتسارعة في التكنولوجيا والنقد والمال عدا عن المتغيرات الجيوسياسية والدبلوماسية، وقد تجلّت قدرة هذه الصناديق على الوقوف في وجه الازمات في مرحلة الازمة المالية العالمية وعند تراجع أسعار النفط وتداعيات ذلك على موازنات دول الخليج، كذلك خلال جائحة كورونا، ما شكّل قناعة لدى حكومات الخليج بضرورة تطوير استثماراتها في الأسواق المالية العالمية من خلال هذه الصناديق.