د. مصطفى علوش- الجمهورية «لم تأت اغنيتي لترسم أحمد الكحليّ في الخندق الذكريات وراء ظهري، وهو يوم الشمس والزنبق يا أيّها الولد الموزّع بين نافذتين لا تتبادلان رسائلي قاوم إنّ التشابه للرمال… وأنت للأزرق» أحمد الزعتر محمود درويش لم يكن رفيق الحريري بريئًا، وبالتأكيد لم يكن مظلومًا، بحسب قناعتي، وبالتأكيد بحسب قناعة مَن قرّر قتله. فالظلم والعدل يُقاسان بموازين عديدة ليس فيها معايير موحدة، فهي استنسابية بالكامل. ولا يكفي أيضًا أن يقتنع المرء بأنّ الخير ساكن في مشروعه، حتى يصبح هذا المشروع خيرًا لكل الناس. فمقابل كل مشروع ينجح تسقط مشاريع أخرى منافسة، أو متضررة من نجاح ما، يجعل منها غير قابلة للحياة. هذا هو مبدأ «التدمير الإبداعي» الذي طرحه عبقري السياسة والاقتصاد «جوزف شومبيتر» في أواسط القرن الماضي، في كتابه المرجعي «الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية». تقول النظرية انّ أي مشروع مستجد وفعّال، يطرح تحسين الإنتاج وتقليل الكلفة، سيتسبّب بدمار واسع على مشاريع ذات صلة، كانت موجودة وفاعلة قبل المشروع الجديد. وهذا المسار الدارويني الطابع (نسبة إلى داروين بنظرية البقاء للأصلح) يعني أنّ الجهد الإنساني المستمر للتطوير، بالاعتماد على العلم والتكنولوجيا، سيقضي بطريقه، عن قصد أو من غير قصد، على ما سبق من نتاج، لمجرد عدم قدرة القديم على المنافسة. يمكن أن نعطي مثلاً الهواتف الذكية التي صنعتها شركة «أبل»، وكيف تمكنت من إقفال معظم أعمال شركة «نوكيا» العملاقة والرائدة في صناعة الهواتف الجوالة. وكيف قضت مكنات الحياكة منذ بضعة قرون على حرفة الحياكة المنزلية في إنكلترا. كان ذلك سنة 1589، عندما قام «وليم لي» باختراع أول آلة غزل نسيج خشبية، احتاجت لضخامتها الى عدة عربات خيول لنقلها من مدينة نوتنغهام إلى لندن، لتتفحصها الملكة «إليزابيت الأولى». بعدما استمعت الملكة للشرح، أمرت المخترع بضَبضبة آلته، مخافة على ربات المنازل من رعاياها، اللواتي يحصلن على دخل صغير من النسيج المنزلي. احتاجت تلك الآلة لقرنين إضافيين لتسيطر على صناعة النسيج بنسخ مطورة، وهذه الآلة كانت النواة التي جعلت من بريطانيا العظمى أعظم قوة اقتصادية في العالم، قبل بروز مستعمرتها السابقة، الولايات المتحدة الأميركية، منذ سنة 1871 لتحتلّ هذا المركز حتى يومنا هذا. ما لنا ولكل هذا؟ وما دخل اغتيال رفيق الحريري بشومبيتر والتدمير الإبداعي؟ ما هو واضح بالنسبة لي هو أن مشروع رفيق الحريري، منذ بدايته، استهدف المشروع الثوري العنيف الذي يهدف إلى «سعادة» من بقي من البشرية. من يحصل على السعادة، في الدنيا أو ما بعدها، هي الفئة الناجية أو الحزب الظافر أو الطبقة المنتصرة، بعد فناء معظم الآخرين. فحتى قبل «حزب الله»، شعرت القوى المسلحة في لبنان، التي كانت تقتات وترتزق على استمرار الحرب، بأنّ مسعى المؤتمرات للمصالحة وسحب الشباب من ساحات القتال إلى الجامعات، هو تهديد جدي لرزقها. فالسلام وسحب الشباب يعني قطع الأرزاق بانتهاء الحرب. لذلك، فإنّ معظم تلك المنظمات التي رضيت بالطائف وأوقفت القتال، كانت قد ضمنت مسبقًا استمرار مصدر رزقها في مرحلة السلام، من خلال حصتها في منظومة الفساد المعروفة. وهذه المنظومة هي التي استنفدت كل شيء في البلد حتى وقعت الواقعة الحالية. لكن، من لم ترضه الحصص، كان يطمع بجائزة أكبر. فبغضّ النظر عن العماد ميشال عون الذي كان يطمح الى جائزة رئاسة الجمهورية، مع سلطة كما كانت قبل الطائف، فإن «حزب الله» كان يسعى، وما زال، لوضع علم الجمهورية الإسلامية التابعة للولي الفقيه على كل المؤسسات العامة في لبنان وعلى كل ما يمكن أن يستولي عليه من خلال الموت والدمار أو التهديد بهما. وللأمانة، فأتباع ولاية الفقيه يعتقدون أنّ في سعيهم الخير المطلق للبشرية جمعاء، وبأنهم الفئة الناجية التي تحمل الراية. من هنا، فإنّ مشروع رفيق الحريري كان الخطر الحقيقي على مشروع الحزب، لأن الأخير غير قادر على منافسته، لا بمشروع اقتصادي ولا إعماري، قد يكون أكثر نجاحًا وفعالية مما طرحه الحريري. ما يملك «حزب الله» خبرته بفعالية أممية هو التخريب والإرهاب، مثله مثل كل المنظمات الأبوكاليبتية (هي المجموعات التي تفترض أن العالم الحالي هو من صنع الشر ومن الواجب تدميره، لإفساح المجال أمام الخير المطلق). منذ سنوات، وفي حوار تلفزيوني مع أحد نواب «حزب الله»، كان يستفيض في شرحه النمطي عن كيفية بناء مجتمع المقاومة. فهناك اقتصاد المقاومة وثقافة المقاومة ومستشفيات المقاومة ومدارس المقاومة… وأعطى مثلًا عمّا يتم تدريسه للأطفال في المدارس التابعة للحزب، حيث تغسل عقولهم بوعود الجنة من خلال المقاومة وفخر الموت والقتل في سبيل المقاومة، ليتحول الطفل مجرد أداة للقتل ووقودًا للمشروع الأسطوري بالموت في سبيل استمرار المقاومة، بالطبع إلى أن تأتي ساعة النصر المؤزر للحق على الباطل. عندها تساءلتُ أنا عمّا سيحلّ بالرزق الآتي من التجارة والسياحة، فأجابني بكل ثقة: «فلتذهب التبولة والكبّة النية إلى الجحيم مقابل كرامة الموت من أجل المقاومة». ومن يذكر مقامات حسن نصر الله في بداياته الثورية فقد صرّح بأنه «لو كان في لبنان مليون جائع، لَما أعطيناهم الخبز ليأكلوا، بل سنعطيهم السلاح ليثوروا». وهذا النهج ليس من بنات أفكار نصر الله، بل هو دَأب كل المنظمات الثورية التي تستمد مشروعها من الجوع واليأس، بدل الأمل والرزق الحلال. هنا، وبغضّ النظر عن المشاريع السياسية العابرة للحدود، التي كان رفيق الحريري رأس حربة لها، فإنّ نجاح مشروعه كان يعني الموت لمشروع «حزب الله»، فكان الحل الوحيد عند الحزب هو قتل القائم على هذا المشروع. رفيق الحريري كان يعلم يوم أتى إلى عالم الشأن العام في لبنان، أنه سيكون هناك من يترصّده ويتحيّن الفرص ويخطط ويرسم ليقضي على مشروعه. لكنه ظنّ أن نجاح المشروع الاقتصادي سيجعل منه سيلًا جارفًا لن يتمكن أحد من الوقوف في وجهه. والتفاؤل طبع ثابت لدى أصحاب المشاريع، بالأخصّ مَن أتوا إلى السياسة من عالم الأعمال، ليسقطوا نجاحهم في توسيع أعمالهم على عالم السياسة! أظن أنّ رفيق الحريري هنا أساء التقدير في أعداء مشروعه، ولم يعرف مدى الشراسة التي سيصلون إليها للدفاع عن أنفسهم، مهما كانت منافع المشروع الآخر. لكنني أعتقد أن رفيق الحريري كان يعلم بخطورة خصمه ومدى قدرته على القتال للآخر، ورغم ذلك فقد أقدمَ على تحدي الخطر على أساس انه قدر أو مجرد احتمال بين احتمالات أخرى. صحيح أنّ تعبير رفيق الحريري المشهور كان «ما حدا أكبر من بلده»، لكنه كان يعلم أنّ المهام التي كان يحملها أكبر بكثير من بلده. وكان يعلم أيضًا أنّ مصير بلده مرتبط بنجاح مهماته العابرة للحدود. هو كان يعلم أن عدوه كان يعتبر نفسه، وعن حق، بأنه أكبر بكثير من بلده، وأنه جزء من مشروع أممي. لكن رفيق الحريري كان يظن أنه قادر على إقناع الآخر بالتضحية بمشاريع الموت والدمار النابعة من أسطورة، رأفة ورحمة بالبلد المُثقل بجراحه. منذ سنوات، أعلن ربط النزاع عند انطلاق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يوم تلاوة القرار الاتهامي. اليوم أعلنت الإدانة، فماذا بعد؟ فمَن قتل رفيق الحريري بسبب مشروعه، وقتل ثلة من شركائه، واغتال سياسيًا مَن حاولَ استكمال المشروع من بعده، هل بالإمكان التعويل على تسويات معه من أجل السلطة؟