ثلاثة أسابيع فصلت بين عودة رئيس الحكومة سعد الحريري من واشنطن وزيارة المبعوث الأميركي مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر إلى لبنان. نقل الحريري أجواء زيارته إلى رئيسي الجمهورية ومجلس النواب، لكن النقاش لم يبلغ مداه والسبب التطورات الأمنية بالغة الأهمية التي تمثلت بالإعتداء الإسرائيلي على عناصر “حزب الله” في سوريا، ثم استهداف مكتب العلاقات الإعلامية في ضاحية بيروت الجنوبية بطائرتي “الدرون” المسيّرتين، ورد “حزب الله” في مستوطنة أفيفيم الحدودية، ثم إسقاطه بالأمس مسيّرة إسرائيلية أثناء عبورها للحدود اللبنانية باتجاه بلدة رامية الجنوبية. تطورات يرى “حزب الله” حسب مصادره أنها ستلقي بظلالها على زيارة شينكر وملف التفاوض حول الترسيم، فما كان يرفضه لبنان قبل الاعتداءات والرد عليها لن يقبله بعدها. الوقائع تغيرت وكذلك شروط التفاوض.
في ضوء ما تقدم عاد الحديث بقوة عن القرار الدولي 1701 وإعادة تثبيت قواعد الاشتباك التي تجاوزتها إسرائيل للمرة الأولى منذ العام 2006. وجدت أميركا في التطورات التي حصلت فرصة كي تعيد طرح القرار المذكور على طاولة البحث بهدف تعديله بما يؤمن مصلحة إسرائيل وتثبيت أمنها انطلاقاً من لبنان. لكن التعديل دونه عقبات فأرسلت تؤكد ضرورة استمرار العمل به وهي التي سعت الى ضمان عدم توسع “حزب الله” في رده على اعتداءات إسرائيل الأخيرة على لبنان.
تطورات ستنعكس بالتأكيد على مباحثات المبعوث الأميركي الذي يستهل مهمته في الشرق الأوسط بزيارة الى لبنان الذي يشهد على اتساع رقعة العقوبات المالية الأميركية.
من بوابة أمن إسرائيل، يطل شينكر محمّلاً برسائل لوم وعتب أميركية. يريد الزائر الأميركي كما بلاده الإطمئنان الى ما يصفه بمخازن الأسلحة الصاروخية لـ”حزب الله” والحد من تواجدها بقاعاً وجنوباً. في جعبته يحمل شينكر أيضاً ارتياحاً لدور الجيش اللبناني الذي تتخوف إدارته، وفق آخر تقرير أعدته، أن يستفيد “حزب الله” من أي مساعدات عسكرية قد تعطى للجيش على سبيل دعمه.
خلال الاجتماع الذي جمع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مع رئيس الحكومة سعد الحريري في واشنطن، كان لشينكر الدور الأكبر في إدارة المحادثات. كلف أخيراً بمتابعة ملفّ ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل، خلفاً لسلفه دايفيد ساترفيلد الذي عيّن سفيراً لبلاده في اسطنبول. ينقل متابعون أن شينكر بدا ملماً بتفاصيل الوضع اللبناني وهو من تولى الحديث بإسهاب عن ملف المفاوضات بين لبنان وإسرائيل مفنداً ما يتوجب فعله في هذا المجال.
وينقل عارفوه من الديبلوماسيين أن المبعوث الأميركي ملم بالملف اللبناني عن كثب تابع قضاياه وشؤونه في فترات سابقة. المدير السابق لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والمعروف بتأييده لإسرائيل، متحمس للعودة إلى المنطقة مجدداً، ويصر على تحقيق نجاح في أي مهمة تلقى على عاتقه. يصفه عارفوه بالمتشدد، ويُعدّ من الفريق القريب للرئيس الأميركي دونالد ترامب وصديق لصهره جيرارد كوشنير، وفي لبنان تربطه علاقات صداقة بالعديد من الشخصيات اللبنانية ولا سيما رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط الذي يفترض أن يتوجه الشهر المقبل إلى واشنطن في زيارة كان لشينكر الفضل الأساس في ترتيبها.
يوم زار واشنطن حمل الحريري اقتراحاً اميركياً بأن يصار إلى تشكيل لجنة ثلاثية مؤلّفة من اليونيفيل وممثلين اثنين عن الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي، تقوم بتحديد النقاط الحدودية المختلف عليها كنقطة انطلاق للترسيم وليس ترسيم خط الحدود. وفي مجال ترسيم الحدود البحرية إقترح الجانب الأميركي تشكيل لجنة من اليونيفيل وفريقين اقتصاديين من إسرائيل ولبنان لترسيم الحدود البحرية. كما حمل الحريري اقتراحاً آخر مختلفاً عن الاقتراحين السابقين يقضي بإقامة منطقة تنمية مشتركة تتسلمها لجنة متعدّدة الجنسيات، وتقوم بتشغيلها واستثمارها وتوزيع ثروتها بين الدولتين.
ومن غير المعروف بعد إن كان شينكر سيعيد طرح النقاط التي طرحها خلال زيارة الحريري أو أنه يحمل اقتراحات جديدة، ومن أي نقطة بالتحديد سينطلق في مهمته في لبنان، أم أنه سيستكمل ما سبق وطرحه ساترفيلد.
وقالت مصادر ديبلوماسية إنّ “الهدف من زيارة شينكر هو معرفة الموقف اللبناني الحالي بعد زيارة الحريري إلى واشنطن وإذا ما كان حصل تغيير في التعاطي اللبناني مع ملف ترسيم الحدود”. واستبعدت المصادر الوصول إلى تفاهمات ولو أولية حول الملف قبيل الانتخابات الإسرائيلية المقررة الأسبوع المقبل لعدم استعداد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتقديم أي تنازلات في المرحلة الراهنة.
في المقابل يتوقع أن يتمسك لبنان بموقفه القائم على تلازم مساري الترسيم البري والبحري ورفض تحديد مدة زمنية للاتفاق، لعدم حصول أي تلاعب أو غش من الجهة الإسرائيلية، ويعتبر أن الخلاف هو حول نقطتين برّيتين بالإضافة إلى مسافة الـ 56 كلم من الحدود البحرية.
وأكدت مصادر لبنانية مواكبة لملف الترسيم أنّ الموقف اللبناني كان موحّداً إلى حين زيارة الحريري إلى واشنطن. مفاوضات تحت مظلة الأمم المتحدة ولو مع حضور أميركي وترسيم متلازم بين البر والبحر. قَبِل الجانب الإسرائيلي ثم تراجع بحجة ما زعمه عن وجود معامل صواريخ تابعة لـ”حزب الله”. أطاحوا المفاوضات لكن من دون أن يعرف لبنان هل أن السبب الحقيقي تراجع الإسرائيلي عن قبوله بالصيغة اللبنانية أم رفض الأميركي رعاية الأمم المتحدة، أو أنّ مصلحة الإسرائيلي تقتضي البدء بالترسيم البحري لا البري.
لا يزال لبنان عاجزاً عن تفسير أسباب التراجع الأميركي والرفض الإسرائيلي للصيغة التي سبق ووافقا عليها، كما كان لافتاً ما قاله الحريري في واشنطن وعبّر عنه مستشاره الوزير السابق غطاس خوري الذي قال: “إذا اقتضى الأمر التصويت في مجلس الوزراء للترسيم في البحر قبل البر فإنّ ثروة لبنان المستقبلية هي في البحر”، فعارضه رئيس الجمهورية وبري ووزير الخارجية جبران باسيل. وفعلياً يمكن القول إنّ التبديل في الموقف حول مفاوضات الترسيم كان بين ساترفيلد وساترفيلد ذاته وليس في الموقف اللبناني الذي يتوقع أن يأتي المبعوث الأميركي محمّلاً بالشروط الإسرائيلية.
يستقبل لبنان شينكر موحد الموقف لكن من دون أن يكون بمقدوره القفز فوق التطورات الأمنية التي سترخي بدون شك ظلالها على سير المفاوضات التي تأتي بعد الاعتداء الاسرائيلي ورد “حزب الله” عليها، فبالنسبة إلى “الحزب” إن ما لم ينله المفاوض الأميركي في السابق لن يناله بعد ما حصل، لأنّ “حزب الله” يرى أنّ المفاوضات حول هذا الملف بعد الضربة الإسرائيلية والرد عليها ستكون مختلفة.