إنتظره أهل الجبل من دير القمر، فأتاهم الحدث من اللقلوق. بينما كانت كاميرات النقل المباشر تُجهّز لمتابعة وقائع الجولة الأولى من نوعها لرئيس حزب “القوات” سمير جعجع في الجبل، تكريساً “لحلف” يفترض أنّه صار “عتيقاً” و”عميقاً” مع المختارة وسيدها، فجّر النائب سيزار أبي خليل مفاجأة صباحية تمثلت بنشره تغريدة “موثقة” بصورتين تظهران النائب تيمور جنبلاط في ضيافة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في دارته في جرد جبيل.
على خلاف “الاستعراض” الذي رافق زيارة الوفد الاشتراكي – الجنبلاطي الذي ترأسته شقيقته داليا إلى قصر بيت الدين للترحيب برئيس الجمهورية ميشال عون، ولتعزيز المصالحة التي جرت في بعبدا برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري، قصد تيمور اللقلوق بلا أي صخب أو فولكلور سياسي أو اعلامي.
طبعاً، يشكّل هذا الخجل والهدوء في التعاطي بعضاً من مكونات “بروفيل” النائب الشوفي، الوريث الشرعي لزعامة المختارة. ومع ذلك، كان لوقع الخطوة، أصداء كبيرة تخطت الحدود المتوقعة، لدرجة أنّ كُثراً ربطوا بين اللقاء العابر لأزمة قبرشمون، وبين تأجيل جعجع زيارته إلى الجبل!
عملياً، بدا الربط مشروعاً بين الحدث الجبيلي وذلك المؤجل، خصوصاً أنّ اللقاء الصباحي عقد قبل ساعات معدودة من “المصالحة الكبرى”، المنتظرة منذ أسابيع، والتي استضافها الرئيس نبيه بري ظهراً، بين ممثلين عن “حزب الله” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”.
ربط يقود إلى استنتاج بديهي من شأنه أن يطبع المرحلة المقبلة بقواعد جديدة: وليد جنبلاط يعيد رسم تموضعه السياسي نحو “حزب الله”، من بوابة “العهد”.
المفارقة الملفتة تكمن في لعبة الزمن: حين أوعز جعجع إلى قيادييه ببدء التحضير للزيارة المنتظرة منذ سنوات، كان جنبلاط يكثّف إشاراته “السيادية” لدرجة أنّ البعض توهم أنّ الزعيم الدرزي يضع يده على معطيات استثنائية قد تشي بانقلابات كبيرة تستعد لها المنطقة، وها هو يشحن بطاريات “انتفاضته”. وحين عاد جعجع أدراجه، كان جنبلاط في صدد إدارة محرّكات العودة إلى “أحضان” الضاحية الجنوبية بعناية صديقه.
تسريع الموعد
فعلها الرئيس بري. وعد حليفه العتيق وليد جنبلاط بجلسة غسيل قلوب بنسخة متجددة مع “حزب الله”، ووفى بوعده. خلال الأيام الأخيرة كثّف رئيس المجلس جهوده لحصول اللقاء بأسرع وقت ممكن. أجرى أكثر من عشرة اتصالات بقيادة “الحزب” لتسريع الموعد قدر الامكان. كان لا بدّ بنظره من طي صفحة التوتر، والتي لم تكن أحداث البساتين إلا واحدة من تجلّياتها… لأن حقيقة المشكلة في مكان آخر.
جنبلاط رجل “القلق الدائم”. القلق على طائفته، على زعامته، على وراثته… القلق من التطورات الاقليمية، وهو المتابع الدقيق لمفاصلها، ولمفاعيلها اللبنانية، مسكون دوماً بهاجس “الانقلابات البيضاء”. أن يكون الرئيس الرابع لجمهورية ما بعد “الطائف”، خارج التسوية الرئاسية التي أتت بعون رئيساً للجمهورية، رغم تصويت كتلته لمصلحة الجنرال، فيبقى على مقاعد التفرّج، ومن ثم الاستهداف، فتلك سابقة في التاريخ الجنبلاطي.
شخصية جنبلاط القلقة، لا تساعده على تبرئة ذمّة الأحداث التي تدور حول زعامته أو تمسّه “بوردة”. كان حكمه مبرماً في تعرّضه للاستهداف والتصفية السياسية. اتهم “حزب الله” وسوريا في مؤامرة “تصفية” زعامته. حتى زيارة باسيل في الثلاثين من حزيران الماضي إلى كفرمتى أدرجها في قاموس المواجهة المباشرة، خصوصاً وأنّها أتت لتكمل مشهدية “تطويعه” و”زركه” في الزاوية. ولذا بدت معركته ذات عنوان واضح: هاتوني بضمانات من “حزب الله”، أعطيكم “سلامي”.
يجيد “حزب الله” القراءة في الكتاب الجنبلاطي، ويعرف ما يريده الرجل وما الذي يبحث عنه، حتى لو أدار أحياناً أذنه الطرشاء. وحين تفوته بعض التفاصيل، تحضر “عدّة” الرئيس بري في سبر أعماق المختارة ودهاليزها. لكن الأولوية هي دوماً لحماية الحلفاء وتحصينهم، ولهذا أرفِق سيناريو مصالحة الجبل بتوقيع أرسلاني عريض حتى لو فعلها رئيس الحزب “الديموقراطي اللبناني” طلال ارسلان على مضض!
ولكن حين حلّت لغة الأخذ والرد محل الرصاص الحيّ، صار بالإمكان مجالسة الاشتراكيين وإعادة فتح دفتر الحسابات بكل تشعّباته، خصوصاً وأنّ الحزب متيقّن من أنّ اعتبارات المختارة لا تتجاوز الحدود على الرغم من المواقف التصعيدية.
إمتعاض ارسلان
ومن الطبيعي حينها ارتفاع منسوب امتعاض أرسلان مع اكتمال “بازل” المصالحة بلقاءي اللقلوق وعين التينة، لأنه متأكد أنّ جنبلاط سيستخدم هاتين الورقيتن لحماية مكتسباته من المواقع الادارية منعاً لأي تسرب باتجاه خصومه.
هكذا، ختم لقاء عين التينة مصالحة الجبل بالشمع الأحمر بعد عبورها معموديات المصالحات التمهيدية التي جرت على التوالي في بعبدا وبيت الدين واللقلوق. وبهذا المعنى يُفهم حرص الرئيس بري على أن تُختتم الجلسة بـ”شواهد كلامية” يعبّر عنها أصحاب العلاقة بغية إزالة أي التباس قد يتسلل من جدار الخلافات المحمولة إلى اللقاء الثلاثي.
تدرك الحلقة اللصيقة بالزعيم الدرزي أنّه لا يخطط لصياغة تحالف مع “حزب الله” ولا هو بصدد الانقلاب على أصدقائه، لكنه في المقابل ليس من هواة ممارسة ترف المعارضة للمعارضة، ولا زعامته من قماشة الزعامات المترفعة على الخدمات. هو ابن النظام وأحد صنّاعه، ولن يكون بالتالي خارجه. ولذا أول أهدافه، التعايش مع عهد ميشال عون بأقل الأضرار الممكنة، وتأطير علاقته مع “حزب الله” بعد تنقيتها من الشوائب.
فعلى خط “اللقلوق” لم يبالغ تيمور جنبلاط في توصيف اللقاء واضعاً إياه في خانة “التواصل السياسي للمساهمة بإراحة الجو في ظل الظروف الراهنة”، بينما أشار النائب أبي خليل إلى أنّ “محور اللقاء كان التطلع معاً نحو المستقبل والشراكة في الإدارة والسياسة والإنماء والاقتصاد”.
أما على خط “عين التينة”، فتفيد المعلومات أنّ الجلسة كانت أكثر من ممتازة، وهي دشّنت مرحلة جديدة من العلاقة بين “الاشتراكي” و”حزب الله” بعدما طوت صفحة المرحلة الماضية بكل إشكالاتها، وقد تفاهم الطرفان على تفويض الرئيس بري مهمة رعاية العلاقة ليكون “ناظرها الرسمي” بحيث يتدخل كلما فرضت الحاجة أو الخلاف لمتابعتها ومعالجة أي التباس.
المصدر : mtv