كتب أحمد الحريري
المصدر: النهار
اللبنانيون الذين راحوا يدينون حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ونوعيته ومدى عدالته كانوا يعبرون عن غضب مدفوع بعاطفة إنسانية لا يمكن لأي إنسان أن يتجرد منها خصوصاً أمام هول جريمة 14 شباط 2005. لكن هذا الغضب العاطفي في لحظته وضع عن غير قصد المحكمة في الدائرة التي أرادها الذين رفضوا المحكمة منذ قيامها بذريعة أنها مُسيسة، قبل أن يأتي الحكم ويُسقط كل مزاعم هؤلاء.
ما يستدعي الانتباه، أن هذا الغضب بدا كما لو أن هناك انقلاباً في الأدوار بين المطالبين بالمحكمة منذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبين الفريق “المتورط” بهذه المقتلة، والذي لم يترك شيئاً إلا وفعله بدعوى أن المحكمة مُسيسة وتستهدفه هو على وجه الخصوص لأسباب متنوعة راح يبررها حيناً بأنه وحده من يعادي إسرائيل في لبنان، أو لأن الهدف هو إحداث فتنة داخلية والتي من شروط وقوعها توافر الأطراف المستعدة للتقاتل، وهو وحده المسلح. ووحده من خارج على/ وعن الدستور واتفاق الطائف ومقتضيات العيش المشترك.
بهذا المعنى، كان من باب أولى الترحيب بالحكم والالتفاف حوله بوصفه لحظة استثنائية في تاريخ لبنان على طريق محاسبة القتل السياسي وفاعليه. وكلنا يعلم أن التاريخ اللبناني يفيض بالكثير من تواريخ الموت التأسيسي. ذلك ان الكثير من هذا القتل كانت وظيفته نقل لبنان من مكان إلى آخر. وكل القتل السياسي أدى هذه الأدوار ومر من دون محاسبة. لكن مع صدور قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تغيرت الأمور تماماً.
منذ اللحظة الأولى للاغتيال، كان الرهان على كشف الحقيقة من خلال أعلى سلطة قضائية دولية، وكسبنا الرهان، مع هذا الحكم التاريخي الذي أدان منظومة كاملة لم تترك “واجباً جهادياً” إلا وقامت به لضرب المحكمة وتضليل التحقيق، فإذ بالمحكمة تصدر حكمها، وتقول كلمتها على مرأى من كل العالم الذي تلقف هذا الحكم، وهذه الحقيقة، وصوب بها باتجاه القاتل والجهة التي ينتمي إليها، أي “حزب الله”.
كنا طوال الـ 15 عاماً الماضية أبعد ما نكون عن الرهان على قضاء مسيس يبيع ويشتري على طريقة بعض القضاء عندنا. ما صدر عن المحكمة انتصر لما ناضلنا جميعاً من أجله وعلى مدى السنوات لإثباته حول الطبيعة القانونية المجردة للمحكمة وانتفاء السياسة منها وعنها. وهذا ما تجلى بإدانة سليم عياش العنصر في “حزب الله”، إدانة كاملة لا لبس فيها، وعدم إدانة الاخرين لعدم كفاية الأدلة، كي لا يكون هناك أي شك في أي إدانة قد تصدر.
لقد غاب عن بال كثيرين منا ان حكم المحكمة امتاز بحرفية عالية ومهنية حساسة جداً، وانه ليس من اختصاصها إدانة دول وجمعيات وأطر ومكونات سياسية. فمهمتها محصورة بالحكم على أفراد. وهي إذ أدانت شخصاً واحداً من “حزب الله” ثبت بالإدلة تورطه بالجريمة فهذا يعني بالسياسة وبالقانون أن الحزب مدان بجريمة العصر.
مع ادانة سليم عياش صار “حزب الله” أمام مرحلة جديدة في مواجهة المجتمع الدولي : فإما أن يستجيب لموجبات الحكم ويسلم المُدان، وإما أن يصبح متورطاً بالتستر على مجرم، ما يدخله ( أي الحزب) في مواجهة مع كيانات دولية ذات اختصاص في مكافحة الارهاب. وبالتالي، فإن المحكمة ليست في نهاية عملها، بل أمام بداية جديدة تبدأ من النقطة الأساس التي أرستها في حكمها. وحكم المحكمة الأولي سينتقل إلى الاستئناف من قبل الإدعاء العام، كما أن المحكمة ستواصل عملها في قضايا الاغتيال المرتبطة (حاوي – المر – حمادة).
ما يتناساه يعضنا أنه للمرة الأولى يصدر حكم قضائي دولي واضح ومباشر وشفاف يتعلق بعملية اغتيال سياسي في لبنان. والحكم لا يحتمل الالتباس الذي يريده البعض لآنه وضع عملية الاغتيال في سردية سياسية حمل من خلالها السلطة السياسية اللبنانية وأجهزتها الأمنية والقضائية مسؤولية التلاعب بمسرح الجريمة وإخفاء أدلة. والاهم ان الحكم كان واضحاً جداً في ربط الأوضاع السياسية التي كانت سائدة آنذاك وربطها بدوافع الجريمة النكراء، وأفصح بوضوح شديدع ن هوية المتهمين السياسية خصوصاً لجهة استفادة النظام السوري وحزب الله من التفجير الإرهابي.
المطلوب اليوم عدم الإستهانة، وعدم استسهال ما حققه لبنان في حكم المحكمة الدولية الخاصة في لبنان وهي التي قامت تحت الفصل السابع، فقد انتقل البلد إلى مربع مختلف. ذلك أن صدور الحكم جاء في ظروف سياسية دقيقة وحساسة يعيشها البلد، فإما أن نُحسن التعاطي معه من مدخل مجرد يفرض على حزب الله تسليم القاتل ، أو أن الحزب الذي لا يُعول عليه خيراً سيدفع بلبنان إلى مواقع ساخنة ويجعل من الحكم، وعبر مجلس الأمن وسيلة ضغط ثقيلة.
المطلوب اليوم التأسيس على ما صدر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وتجنب أي مسار يحاول التقليل من أهمية الحكم وتحويل انتصار الحقيقة إلى هزيمة، في الوقت الذي يقوموا هم بترويج هزائمهم على أنها “انتصارات إلهية”، ، وآخرها الانهزام أمام قوة الحق والحقيقة.
المطلوب اليوم المضي قدماً بمشروع الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع المؤتمن عليه دولة الرئيس سعد الحريري ونبراسنا في ذلك قول الإمام علي كرم الله وجهه “لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه”، فنحن والحق واحد.