لا داعي لأن يتكلم حاكم مصرف لبنان ليطمئن اللبنانيين على سعر صرف النقد الوطني. ولا داعي لأن يصدر بيانات توضيح، أو يرد على حملات التجني السياسية وأن يوزّع التسريبات ليؤكد أن سعر الليرة مقابل الدولار سيبقى ثابتا وفق السعر الرسمي (1507 ليرة مقابل 1 دولار). فرياض سلامة، الحاكم منذ الأول من آب/أغسطس 1993، عاصر ثلاثة عهود وفراغ رئاسي، وشهد على حروب عسكرية وإغتيالات سياسية وإضرابات شعبية ونقابية، ونجح في كل إستحقاق بإخراج النقد الوطني والقطاع المصرفي من “خروم الشبك”.لا داعي لإقناع اللبنانيين بأن الحاكم ليس هو المسؤول عن أزمة الدولار/الليرة. فمن استمات من أجل الحفاظ على الليرة، وتاليا على مدخرات اللبنانيين وقدراتهم الشرائية، ولاحق معدلات التضخم ليبقيها مضغوطة، لن يفرّط بما ارتبط بإسمه من ثقة وصدقية وسياسات حازت تنويهات وتكريمات من أرفع المحافل المالية في العالم. هذا ما يجعل الحملات في غير موقعها، وخصوصا بعدما توّسعت دائرة التشكيك لتستدعي توضيحا من المكتب الإعلامي لرئيس مجلس النواب تأكيدا على حسن العلاقة “وما يُثار خلاف ذلك، يندرج في سياق الدسّ الرخيص والمخطط الرامي لاستهداف لبنان واستقراره المالي والإقتصادي”.أما النقاش في السياسة النقدية، فله مكانه وزمانه. وطبعا لا يليق بخبراء وشخصيات سياسية وعسكرية لا فقه لها في الملف النقدي، طرحه على وسائل التواصل وكأنه استفتاء، بما أوحى بأن ثمة رغبات في التعمية على التقصير عن سيل الإصلاحات الكفيلة بقطع دابر الفساد والهدر المتفشيين.ليس في الكلام مبالغة. فما ضجّ في بيروت من شائعات مغرضة الأسبوع الماضي، كاد أن ينال من لبنان والليرة والمصارف والإقتصاد دفعة واحدة… قيل وفق سيناريو توّلت توزيعه “جيوش إلكترونية” مدوزنة، إن أزمة الدولار كشفت عن مخطّط كبيرٍ يُحاك من داخل الدولة نفسها، للتلاعب بسعر صرف العملة بغية الوصول إلى سعر صرفٍ جديد، والتأثير على قيمة الرواتب والأجور بالليرة وخفض قيمة الفائدة النقدية على الأموال المودعة بالليرة.ورجّح “خبراء” وصول الدولار إلى ألفي ليرة “ليتدخل عندها مصرف لبنان بحجة أنه يريد حماية السوق منعاً للإنهيار وخسارة الليرة قيمتها، فيعمد إلى الإتفاق مع الصرافين والتجار والمصارف لإعتماد سعر صرف وسطي، مع القيام بضخّ الدولار في السوق بناء للسعر الجديد، ليكون بذلك قد انتهى عصر الدولار مقابل الـ1500 ليرة، ويبدأ سعر صرف جديد قد يتحدّد بين الـ1600 والـ1750 ليرة”!.على هذا الوقع المدوزن، ثارت المخاوف والتساؤلات: هل وصل لبنان إلى مرحلة الخطر؟ هل العهد والتسوية الرئاسية في خطر؟ هل “سيدر” ومستقبل الغاز في خطر أيضا؟ في كل هذه المعمعة، صدرت الأحكام بتحميل حاكم مصرف لبنان المسؤولية عن كل ما آلت إليه أحوال البلد… وكأنه الآمر الوحيد المسؤول عن معاناة البلد من الفساد والهدر والمحاصصة وسياسة المحسوبيات! هذا ما إستغربه بعض السياسيين ودفع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي للقول أمس “ليس من المقبول التصويب على مصرف لبنان برئاسة حاكمه الذي حاز على تقدير دولي وحافظ على الاستقرار النقدي، بدل البحث عن كبش محرقة والهروب من المسؤولية ورميها على الغير”.نهاية “أسبوع الشائعات” بدت وكأنها تسطّر نهاية بلد الأرز. هواجس تجمعت وأرخت بثقلها على كاهل مواطن، وحفزته للتظاهر في “حراك شعبي” أمس رفضا لـ”سياسة التجويع”، رغم إمتداد لهيب الإعتراض الى قطع للطرق وحرق إطارات وأعمال شغب وصدامات مع القوى الأمنية، وإتهام “الطابور الخامس” بتعكير صفو المطالب….بالطبع، ومن دون سؤال الحاكم سلامة، فإن مصرف لبنان لن يحيد أنملة عن سياسة التثبيت النقدي. وقد أكدت مصادره لموقع Arab Economic News أمس، “أن لا تغيير في سياسة سعر الصرف، وتلتزم المصارف بإحترام السعر الرسمي المحدد لليرة اللبنانية مقابل الدولار”. ووفق المصادر، تعود أسباب “أزمة الدولار” الى: حيازة الدولار، وشراء الدولار من السوريين (أو تهريبه إلى سوريا)، وحاجات تمويل عمليات الإستيراد وخصوصا المحروقات”. هي ظاهرة قد تستمر بحسب المصادر، “لكن دولار الوديعة يحافظ على سعره طالما بقي في المصرف. علينا المواجهة، وبعد فترة سيعود مَن لديه الدولار الى عرضه ولو جزئيا”.الى ذلك، يمكن إضافة عامل سحب ودائع بالدولار من المصارف تراوح قيمتها بحسب تقديرات غير مؤكدة، ما بين 1.5 و5 مليارات دولار، إما خوفا على مدخرات، وإما خشية من العقوبات الأميركية على “حزب الله”، وخصوصا بعدما تردد أن أصحابها هم من “أنصار” و”حلفاء” الحزب وبعض السوريين. كذلك، ثمة من يتهم النظام السوري بـ”شفط” الدولارات من السوق وشحنها إلى سوريا.وتشير المصادر الى أن مبادرة الحاكم سلامة كفيلة بحلّ الأزمة، “وستعلن غدا من خلال التعميم الذي بات جاهزا، وتُجرى له قراءة أخيرة اليوم” ضمانا لحسن الإلتزام والتنفيذ.ووفق التعميم، سيتمّ اعتباراً من الثلثاء، فتح إعتمادات بالدولار للإستيراد، شرط استخدامها حصراً للدفع إلى الخارج، على أن تتم العمليات الداخلية بالليرة. وهكذا، سيتسلم أصحاب المحطات المشتقات النفطية من الشركات بالليرة، وتقوم الشركات بتحويل المبالغ إلى الدولار عبر مصرف لبنان.بإيجاز، قطع مصرف لبنان دابر المضاربات التي نشطت أخيرا، وسحب أعذار أصحاب المحطات ومستوردي القمح والدواء، ووضع الصرافين غير المنتظمين خارج السوق، لينهي الأزمة ويطمئن المخاوف. ويبقى على السلطة الإنصراف إلى عملها، فتطلق الإصلاحات مقابل “سيدر”، وتفعّل النمو لتوفر فرص عمل جديدة، وتكافح الفساد وتستعيد الأموال المنهوبة تلبية لمطالب المتظاهرين بدل التهرّب من المسؤوليات.هذا هو رياض سلامة. الليرة ستبقى ثابتة، ونقطة على السطر…