Loading

wait a moment

No data available!

“عودة” الفاخوري: تيار سياسي تذاكى على الأميركيين وحزب الله

في أحد مشاهد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، أيار العام 2000، تبرز صورة لآخر ضابط في مليشيا أنطوان لحد، يقف شاخصاً نحو البوابة التي يتم إقفالها قائلاً: “كنّا نعرف أنه سيأتي يوم ويغادرون ويتركوننا. لكن كنا نأمل أن يتركونا بشرف على الأقل”. حينها أجاب أحد أبناء الجنوب بسؤال: “وهل للعميل شرف؟”.

طبقات العملاء
منذ الانسحاب الاسرائيلي، ولبنان لم يجد طريقه إلى حلّ معضلة العملاء الذين غادروا مع الاحتلال. لبنان في هكذا حالات لا يلجأ إلى مواجهة المشكلة ومعالجتها من جذورها، إنما يهرب إلى الأمام، ويتجنّب مواجهة الاستحقاقات. فكان الخيار تقسيم العملاء إلى مستويات مختلفة، منهم من جرمه كبير ومسؤولية خيانته لا يمكن إلا إنزال أحكام صارمة وعادلة بحقه، تصل إلى الإعدام أو المؤبد. وهذا المستوى من العملاء هو الذي غادر. آخرون، هم من الذين يمكن تسهيل التعامل مع ملفاتهم، وفق الظرف والحاجة. فمنهم من حكم عليه بالسجن لسنة، وأسوأهم من حكم عليه بالسجن لعشر سنوات.

معضلة العمالة في لبنان مستعصية، لها أسبابها الأخلاقية والسياسية، إضافة إلى الإغراءات المالية مثلاً. فشعور البعض بالحاجة إلى الاستقواء، تعويضاً عن ضعف في نفوسهم أو في مواقعهم الاجتماعية، هو الذي يدفعهم إلى ارتكاب الخيانة ضد مواطنيهم ووطنهم. وهذا الصنف أسوأ من العمالة في سبيل المال أو طمعاً بمكاسب مادية أخرى. أما العملاء الأكثر شراً وخطورة فهم الذين يحملون أحقاداً وضغائن تدفعهم إلى ارتكاب الجرائم وليس فقط الانحياز إلى العدو. هؤلاء يسبقون العدو ويبزونه في إلحاق الأذى بجيرانهم ومواطنيهم وبلدهم.

هذا الصنف من العملاء، هو الذي لا مفر له من محاكمات قاسية. هؤلاء يشكلون خطراً حتى في ظل غياب الاحتلال، الذي يستمدون منه قوتهم. ونحن أبناء الجنوب، عايشنا هذه النماذج والطبقات المختلفة من العملاء. والذين سعى الكثير منهم بعد التحرير إلى تبييض سجلاتهم، إما بالاستناد إلى نفوذ أو بدفع المال، أو بتغيير الولاء سريعاً والانتساب إلى حزب أو تيار قوي.

هكذا، أصابت الاستنسابية قضية العملاء السابقين، خصوصاً أن كثراً منهم، ومن الطوائف المختلفة، باتت لهم حصانة أو حماية حزبية وسياسية.

تفاهم مار مخايل و”المبعدين”
تمثّل قضية “إعادة” (أو “عودة”) العملاء الذين غادروا مع الإحتلال الإسرائيلي، جانباً أساسياً من اهتمامات قوى سياسية متعددة. التسوية بين حزب الله والنظام السوري والبطريركية المارونية وقوى سياسية أخرى، أسهمت في معالجة ملفات الكثير من العملاء قضائياً، وضمان سلامتهم وعدم التعرض لهم. “التيار الوطني الحرّ” هو أبرز من رفع لواء استعادة العملاء، وهو يصفهم بـ”المبعدين”، حسب تعبير استخدمه مؤخراً الوزير جبران باسيل أثناء جولته الأخيرة في الجنوب. هذا الملف يشكل بنداً أساسياً من بنود “ورقة التفاهم” بين حزب الله والتيار الوطني الحر، التي وقعت في العام 2006. وعلى كل حال، أي مسعى من هذا النوع قد يكون ضرورياً. لكن على قاعدة إجراء محاكمات جدية وحقيقية، ولا تكون خاضعة لتسوية سياسية. تماما كما هو واجب التعامل مع لبنانيين آخرين التحقوا بتنظيمات إرهابية مثلاً.

عودة العميل عامر الفاخوري، تطرح أسئلة كثيرة حولها. فلا يمكن أن يكون قد عاد بقرار ذاتي منه، أو بلا أي ضمانات. فمن شجعه وقدم له الضمانات؟ ومن رافق الفاخوري إلى الأمن العام لتسهيل دخوله؟ ومن أتم الإجراءات العديدة قبيل حجز الفاخوري لتذكرة سفره؟ ومن نظف صفحته وسحب كل الأسباب لتوقيفه لحظة وصوله؟ هذه الإجراءات لا يمكن أن تحدث لوحدها أو بالصدفة، خصوصاً في لحظة سعي التيار الوطني الحر إلى تحقيق مكسب شعبي جديد بين المسيحيين، عبر ترتيب حلّ لهؤلاء العملاء.

قصة العميد وأمن المطار
عالم السياسية لا يعرف كثيراً الصدفة، أو لا يمكن فصل أي حدث عن حدث آخر مزامناً أو مجاوراً له. من هنا، لا بد من السؤال عن العميد الذي رافق الفاخوري إلى “الأمن العام” وسهّل عملية دخوله. بالتأكيد، لم يبادر العميد بمفرده، وهو حسب المعلومات، أحد المرشحين بتولي منصب رئيس جهاز أمن المطار. ومعروفٌ من هي الجهة “القوية” هذه الأيام التي تتولى توزيع الحصص الوظيفية والتعيينات في الدولة. وبالتأكيد، أن من طلب منه مساعدة الفاخوري، يعتزم مكافأته فيما بعد، بمعزل عن توقيفه حالياً.

وحسب المعلومات أيضاً، فإن عملية عودة الفاخوري كانت منظمة ومرعية من قبل مسؤولين كبار في الدولة، وهم يريدون بإصرار حلّ ملف العملاء الفارين. وهذا في جانب منه له مبرره الإنساني والوطني. إذ أن من غادر لبنان مثلاً مع أهله وكان طفلاً في العام 2000 لا ذنب له. لكن في جانب آخر، هناك حسابات انتخابية وشعبية وسياسية تتبدى في تدبير عودة الفاخوري خصوصاً أنه صاحب الصور مع مسؤولين بارزين في الحزب الجمهوري الأميركي والرئيس دونالد ترامب. وقد تدخلت السفارة الأميركية وسفارات أخرى لإطلاق سراحه.

التبييض والتمويه والتشويه
كل هذا يكشف أن الرجل ليس وحيداً، ويحظى باهتمام. وبالتالي لا بد أن يكون لإعادته بعضاً من المنفعة على راعي هذه العودة. وقد ترتبط بمحاولة هذا الراعي تبييض صفحته مع الأميركيين عبر تبييض صفحة الفاخوري لبنانياً وتوفير عودته. وهذه المسألة لا تنفصل عن ما يجري في لبنان من ضغوط أميركية وعقوبات قاسية تشمل حزب الله وحلفاءه. وكثر من هؤلاء “الحلفاء” تحديداً يريد تجنب العقوبات أولاً، وتحسين علاقاته مع الأميركيين ثانياً. عودة الفاخوري بالمعنى السياسي أيضاً لا تنفصل عن مقولة: “حق اسرائيل بالسلام وعدم وجود خلاف أيديولوجي معها”، ومساعي صاحب هذه المقولة  لإعادة “المبعدين”. وربما وجد في اختبار الفاخوري فرصة لجس النبض، وضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.

هذا الطرف الذي يلعب على التناقضات، ويتذاكى في تعامله مع كل الملفات، يقدم إشارة تودد إلى الأميركيين، من دون أن يعلنها جهاراً  لبنانياً بما يعاكس التفاهمات مع حزب الله، الذي لا يريد أن تكون عودة العملاء استفزازية لجمهوره وبيئته.

في هذا السياق “التمويهي” جاء النشر المكثف لصورة الفاخوري إلى جانب قائد الجيش جوزيف عون خلال زيارته إلى واشنطن. ونشر هذه الصورة عمداً، تمويهاً للجهة التي رعت وصول الفاخوري إلى مطار بيروت، يتصل بما يُحكى عن المنافسة القوية أو التهديد الذي يشكله قائد الجيش في معركة الانتخابات الرئاسية، خصوصاً أنه يحظى برضى أميركي وعربي ولبناني. وهناك من أراد من خلال هذه الحملة، إظهار قائد الجيش على أنه هو الذي رعى عودة الفاخوري. بينما الواضح أن مبادرة من هذا النوع، لا يمكن إلا ان تكون صادرة عن قرار سياسي “قوي”.

المدن – منير ربيع

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *