جورج بكاسيني
حقّق رئيس التيار “الوطني الحرّ” النائب جبران باسيل نجاحاً باهراً في ردّه اليوم على الرئيس المكلّف سعد الحريري. تمكّن في إطلالة واحدة من جمع عشرات المواقف المتناقضة، حتى إذا أنجز مهمة الجمع والقسمة توّج مسلسل “الشيء ونقيضه” باقتراح “مثال” للحفاظ على “التنوّع” اللبناني هو بشار الأسد شخصياً .
لم يكلّف النائب باسيل المشاهدين عناء النقاش حول ثوابته المتعلقة بـ”العيش المشترك” و”المناصفة الفعلية” بين اللبنانيين. اختصر كل هواجسه المتصلة بمعوقات “الوحدة الوطنية” بعنوان مركزي يصلح كمَثَل لكل الدول المختلطة طائفياً في الكوكب. لم يتورّع عن السعي الى طمس الميثاقيين الأوائل من ذاكرة اللبنانيين، أمثال يوسف السودا وميشال شيحا وبشارة الخوري .. لجأ مباشرة ومن دون مواربة الى النموذج المطلوب: بشار الأسد.
ليس في كلام باسيل تملّق لرئيس النظام السوري ولا مجاملات .إنه إعجاب صادق بالنموذج المشار إليه، الذي سبق وطُبّق في لبنان من مجزرة اليونسكو العام ١٩٨٩ الى مسلسل تكفير الطوائف غير المسيحية من بوابة ما سُمّي “القانون الأرثوذكسي”.
إنها قصة غرام لا تتوقّف بين السجين والسجّان. متلازمة خرجت من رحم “وحدة المسار والمصير “، تتناسل بين فينة وأخرى لتضرب نخاع النظام اللبناني وميثاقه من الوريد الى الوريد.
لم يجد رئيس التيار “الوطني الحرّ” أفضل من بشار الأسد أنموذجاً لإدارة الحكم في لبنان . فوريث صاحب مجزرة حماه ، وقاتل ربع سنّة سوريا ومعيق (إعاقة) ربعهم الثاني ومهجّر ربعهم الثالث تمهيداً للقضاء على ربعهم الأخير، هو “المثَل والمثال” لكيفية إدارة “التنوّع ” في لبنان .
ومن نافل القول أن مسيحيي سوريا ينالون نصيب السنّة نفسه من تقديرهم كرمز للتنوّع في سوريا، مع حاجة المرء الى الاستعانة ب”غوغل” أو أقرب صديق لتذكّر ولو اسم مسيحي واحد يحتلّ موقعاً مميّزاً في هذا النظام .
أين هو “التنوّع ” في سوريا ؟ هل المطلوب “تنوّع ” في لبنان على طريقة ”البعث” بحيث يدير الجمهورية شخص أو حزب حاكم ومن تبقّى من اللبنانيين يصطفّون في “جبهة تقدّمية” هي مجرّد صورة لا أكثر ؟
هذا هو النموذج الذي ينتظره اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً؟
إنه بيت القصيد في مطالعة باسيل اليوم التي تستدعي تذكيره بداية أن الجمهورية التي يتحدّث عنها تدعى لبنان لا “عونستان”، وأن المسيحيين الذين يسعى الى ادّعاء تمثيلهم يحتلّون أبرز المواقع في الدولة اللبنانية، بدءاً من رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان وصولاً مجلس القضاء الأعلى وأهم المواقع الإدارية وغيرها .أما النموذج السوري الذي استرسل في إبداء الإعجاب به فلم يحرم المسيحيين من الوصول الى المواقع الأبرز وحسب، وإنما حتى من بلوغ فئة حاجب.
لم يكتفِ النائب باسيل بحشو مطالعته بفائض من التناقضات بين رفض “الثلث المعطّل” والدفاع المستميت عنه، وبين إعلان عدم التمسك به والمطالبة بحكومة من عشرين وزيراً. حصَر مشكلته مع الرئيس المكلّف متّهماً إياه وحده برفض الثلث المعطّل أو بتمثيل الأحزاب في الحكومة، متجاهلاً أن ما طرحه الرئيس الحريري يتطابق والمواصفات التي يطرحها العرب والعالم، كما ينسجم فوق كل ذلك مع ما يطالب به المسيحيون أولاً .
إن عودة سريعة لأرشيف المرجعيات والقوى الروحية والسياسية المسيحية تكفي لإثبات هذا التطابق. لكن باسيل حمّلها للحريري وحده سعياً الى استعطاف مسيحي يفتقده، مع العلم أن المسيحيين مثلهم مثل باقي اللبنانيين يتقزّزون من هذه الشعارات و”المعايير” التي لا تسمن من جوع .
فلماذا لم يرد النائب باسيل مثلاً على كلام البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي عبّر خير تعبير، مراراً وتكراراً، عن المواصفات المطلوبة للحكومة العتيدة، وفي مقدمها رفض الثلث المعطّل. وهل يختلف موقف آخرين عن موقف بكركي بدءاً من حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” و”الكتلة الوطنية” و”المردة” ، وصولاً الى نواب ووزراء سابقين وقيادات وكادرات كانت تدور في فلك “الوطني الحرّ” وتتولى مواقع أساسية فيه من جان عزيز الى أنطوان نصرالله .
إنه الإمعان في ارتكاب الأخطاء والخطايا، والإبحار في عمق الانهيار دون سفينة، والقفز فوق الضحايا والحقائق من دون بوصلة.
بين العامين ١٩٨٨و ١٩٩٠ قرّر شخص واحد عن مئات الآلاف من المسيحيين الانتحار . في ٢٠٢١ قرّر شخص واحد أيضاً، عمّن تبقّى من المسيحيين، الانتحار مرة ثانية .